ما الذي استفادته البشرية من الضجة التي أثارها فيليكس باومگارتنر قبل يومين؟
هل كان ذلك محض استعراض ذكوري فجّ؟ مجرد تجسيد لقيم الثقافة الاستهلاكية؟ درس غير مسبوق في “فن” التسويق والعلاقات العامة؟ لقد أنفقت (ريد بُل) حوالي ٣٠ مليون دولار على المغامرة، لكن كم كسبت بحسب واقع سوق الدعاية؟
على الطرف الآخر، سيشير البعض للمكتسبات “العلمية” للتجربة. فهذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يلامس فيها الإنسان حاجز الصوت بدون أن يكون داخل أية مركبة. هذا إذا لم نعتبر الزيّ الفضائي الذي ارتداه فيليكس وصممه له فريق من ٥٠ مهندساً من حول العالم بتكلفة ٢٠٠ ألف دولار، أقول إذا لم نعتبر ذلك الزيّ بمثابة مركبة طيران من نوع جديد. وهنا لابد أن يعتبر البعض هذا نوعاً آخر من “السفه” غير المسبوق.. ٢٠٠ ألف لأجل بدلة نطّ؟ و ٣٠ مليون لأجل قفزة استغرقت أقل من عشر دقائق؟ ألم يكن من الأَولى أن يُدفع هذا المبلغ لأجل بناء مدارس أو مستشفيات أو لإطعام ملايين الجوعى حول العالم؟
أياً تكن وجهة نظرك، فالمسألة ليست بذاك القدر من التسطيح. القضية تتجاوز مجرد كونها “قفزة” برعاية شركة مشاريب، بل هي في صميم غريزة الإنسان التي طالما دفعته للمغامرة والاستكشاف. الغريزة التي ندين لها بحضارتنا المادية والفكرية كذلك.. والتي أزعم أنها، أيضاً، الغريزة المحركة لمبدأ “عمارة الأرض”.
الإنسان في الأصل “كائن ملقوف”. وتلك اللقافة قادت أجدادنا للهجرة عبر القارات، لاكتشاف النار والعجلة والأرقام، لسكنى الصحارى الرملية والجليدية. اللقافة هي التي أفضت بشعوب الإنكا لبناء بيوتهم على ارتفاع ١٧ ألف قدم.. وأفضت بالسلالات البولينيزية لترك رحابة الأرض واستعمار جزر ضئيلة في قلب المحيط.. ناهيك عن جرأة قبائل الإسكيمو التي تقارب حد الوقاحة!
لقافة الإنسان هي في صميم سُنّة الانتخاب الطبيعي التي أتاحت للأقوى والأذكى والأكثر جرأة أن يعيش. قد لا تكون العبارة الأخيرة صحيحة على المستوى الفردي لأن الأجرأ غالباً ما يدفع حياته ثمناً للقافته.. وفيليكس كاد يكون مثالاً لذلك. لكن على مستوى المجتمعات، فإن طموح المغامرة والاستكشاف كانا محورييّن في سيادة حضارات وفناء أخرى. في أميركا بالذات يتجسد هذا النمط بل ويؤطر الشخصية الأميركية النمطية. يتكلم الأميركان عن شغفهم المتوارث الذي جاء بأجدادهم من أوروبا لاكتشاف “ما وراء الحدود”. هذه ترجمة ارتجالية لمفردة Frontiers التي تجدها في أدبياتهم. والكلمة أيضاً تعني “التخوم”.. يُقصد بها عموماً ما وراء المعلوم.
نحن مدفوعون، بقوة دفينة في جيناتنا، لاستكشاف ما وراء المعلوم، في قدرات أجسادنا ذاتها أو في العالم المحيط؛ الأرض وما بعدها. البحث عما وراء المعلوم سمة من سمات المتفوقين. وهي سمة ليست بالنبل الذي نتصوره. فالانتصار الذي يحققه المنتصر يكون غالباً مقابل خسارة فادحة. هذه أيضاً صفة ثابتة وتكرارية في تواريخ البشر. “اكتشاف” أميركا قام على جماجم ملايين من السكان الأصليين. الأخ إدوارد جينر، ليخلص البشرية من رعب الجدري، قام بتجريب اللقاح على ابنه. المدام كوري كي تعرّفنا بالعناصر المشعة، عرّضت نفسها مباشرة للراديوم وإخوته لتحصل على جائزتيّ نوبل ثم تموت بأبشع سرطان يمكنك تخيله. أما الكابتن سكوت فكلفه السباق مع آمُندسن للوصول للقطب الجنوبي حياته هو وكامل فريقه في قصة درامية تليق بالسينما.
ماذا استفادت البشرية من الوصول للقطب الجنوبي؟ وماذا استفدنا من اكتشاف اليورانيوم؟ لماذا أقدم ثيسيجر على اجتياز الربع الخالي مرتين.. مرتين اثنتين؟! هل كان أولئك المغامرون “خبلان” أو متهورين؟ ربما. إذا كنت تعتبر أن فيليكس خبل فأنت محق. لكنك ستضطر لأن تصنفه مع نفس طبقة الذين فتحوا الباب لمن سيأتي بعدهم، مقتفياً أثرهم هم. لقد كان كريستوفر كولومبوس مغامراً خبلاً (وغبياً أيضاً).. لكن مغامرته أفضت لإعادة اكتشاف نصف العالم.
أذكى منه كان ماجلّان. والكابتن جيمس كوك الذي لف البحار ليقدم للعالم القديم أستراليا ونيوزيلنده وجزر هاوائي. ماذا عن المجنونيَن اللذين نفذا أول عملية طيران عبر الأطلسي عام ١٩١٩؟ لا شك أنهما في وقتيهما وجدا من ينعتهما بالسفه وقلة القيمة.
تخيل معي وضع نيكولا تِسلا عام ١٩١٥ حين أعلن أنه يتوقع ظهور تقنية ستسمح للناس بإرسال خطاباتهم وصورهم عبر الأثير! ماذا عن ڤانيڤار بوش الذي عدّه الكثيرون حالماً حين أعلن عام ١٩٤٥ عن تصوره لجهاز (الميميكس) الذي ليس سوى نظام لتخزين وتبادل الوثائق يمثله اليوم أي كمبيوتر أو هاتف جوال؟
لعلك تهز رأسك معي في صبر وأنت تنتظر إجابة السؤال الأصلي: ماذا استفاد العالم من قفزة فيليكس؟ والجواب هو: لا أدري بعد!
لا ينبغي أن تكون هناك فائدة مباشرة وواضحة لأية مغامرة. إن غريزة الاستكشاف ليست عملية مقايضة آنية.. بل هي أقرب ما تكون للمضاربة المجنونة في بورصة الحظ. ربما لا تتجسد نتائج مغامرة فيليكس إلا بعد سنوات. أما مجالها الأقرب لذهني فهو السياحة الفضائية! قد يبدو هذا المثال بعيداً عن النبل والأهمية اللتين أسبغناهما على اكتشاف مضاد الجدري أو الوصول لقارة جديدة. لكن لنتذكر أيضاً أن الإنسان كائن نفعي. لقد تعثر كولومبوس بأميركا وهو يبحث عن طريق تجارية أقصر للهند. ولعل مدام كوري تحمّلت الحروق الإشعاعية وهي تمني نفسها بجائزة نوبل ثالثة. المغامر هو كائن مهووس ببريقيّ المجد والذهب. وسياحة الفضاء.. بل برامج استكشاف الفضاء بمجملها.. عانت كثيراً من الإهمال الحكومي مؤخراً بالرغم من بعض الإنجازات المتفرقة هنا وهناك. لكن الحكومات عندها أولويات أهم. أما القطاع الخاص فأولويته الوحيدة هي تحقيق المكسب المادي. ومغامرة فيليكس الأخيرة حققت ذلك بجدارة كما شاهدنا (احسب معي كم كسب موقع يوتيوب مثلاً من ثمة حدث؟!).
ربما تتمخض تقنيات قفزة فليكس باومگارتنر لاحقاً عن سلاح رهيب يحدد نهاية معركة حاسمة ستجري في المستقبل. ربما ستكون هذه وسيلتنا للهبوط على سطح كوكب جديد لغرض اكتشاف موارد أخرى للطاقة أو لدفع خطر محدق ما. ربما تتحول هذه القفزة لجزء من الألعاب الأولمبية بعد ٥٠ سنة. من يدري؟ هذه كله ليس مهماً. المهم أن فيليكس ذكرنا مجدداً بكم هو عالمنا مدهش، وبأن أقاصي تخوم المعرفة بعدها عوالم تنتظر. وإن لم يكن من مكسب وراء قفزة فيليكس الاستعراضية الرأسمالية الفجّة إلا دفع الناس لإعادة مراجعة قوانين الفيزياء وفهم سنن الخلق التي يسيّر الله تعالى بها العالم.. لكفى.
0 comment:
إرسال تعليق